فصل: سنة ست وعشرين ومائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ولاية حنظلة إفريقية وأبي الخطار الأندلسي:

في هذه السنة قدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي اللأندلسي أميراً في رجب، وكان أبو الخطار لما تبايع ولاة الأندلس من قيس قد قال شعراً وعرض فيه بيوم مرج راهط وما كان من بلاء كلب فيه مروان بنالحكم وقيام القيسين مع الضحاك بنقيس الفهري على مروان، ومن الشعر:
أفادت بنو مروان قيساً دماءنا ** وفي الله أن لم يعدلوا حكم عدل

كأنكم لم تشهدو مرج راهطٍ ** ولم تعلموا من كان ثم له الفضل

وقيناكم حر القنا بحورنا ** وليس لكم خيل تعد ولارجل

فلما بلغ شعره هشام بن عبد الملك فأعم أنه رجل من كلب،وكان هشام قد استعمل على إفريقية حنضلة بن صفوان الكلبي سنة أربع وعشرين ومأئة،فكتب إليه هشام أن يولي الخطارالأندلس، فولاه وسيره إليها، فدخل قرطبة يوم جمعة فرأى ثعلبة بن سلامة أميرها قد أضر الأف من البربر،الذين تقدم ذكر أسرهم، ليقتلهم، فلما ذخل أبو الخطار دفع الأسرى إليه، فكانت ولايته سبباً لحياتهم؛وكان لأهل الشام الذين بالأندلس قد أرادو الخروج مع ثعلبة بن سلامة إلى الشام، فلم يزل أبو الخطار يحسن إليهم ويستميلهم حتى أقامو،فأنزل كل قوم إلى شبه منازلهم بالشام، فلمارأوا بلداًيشبه بلدانهم أقاموا.وقيل: إن أهل الشام إنما فرقهم في البلاد لأن قرطبة ضاقت عليهم ففرقهم؛وقد ذكرنا بعض أخبارهم سنة تسع وثلاثين ومائة.

.ذكر عدة حوادث:

قيل: وفي هذه السنة وجه الوليد بن يزيد خاله يوسف بنمحمد بن يوسف الثقفي والياًعلى المدينة ومكة والطائف، ودفعإليه محمداًواباهيم ابني هشام بنإسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، فقدم بهما المدينة في شعبان فأقامهما للناس، ثم حملا إلى الشام فأحضرا عند الوليد، فأمر بجلدهما، فقال محمد: أسألك بالقرابة! قال: وأي قرابة بيننا؟ قال: فقد نهى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لضرب ليوط إلا في حد. قال: ففي حد أضربك وقودٍ، أنت أول من فعل بالعرجي، وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان؛ وكان محمد قد أخذه وقيده وأقامه للناس وجلده وسجنه إلى أن مات بعد تسع سنين لهجاء العرجي إياه، ثم أمر به الوليد فجلد هو وأخوه إبراهيم، ثم أوثقهما حيدداً وأمر أن يبعث بهما إلى يوسف بن عمر وهو على العراق، فلما قدم بهما عليه عذلهما حتى ماتا.
وفي هذه السنة عزل الوليد سعيد بن إبراهيم عن قضاء المدينة وولاه يحيى ابن سعيد الأنصاري. وفيها خرجت الروم إلى زبطرة، وهو حصن قديم كان افتتحه حبيب بن مسلمة القهري، فأخربته الروم الآن، فبنى بناء غير محكم، فعاد الروم وأخربوه أيام مروان بن محمد الحمار، ثم بناه الرشيدوشحنه بالرجال، فلما كانت خلافة المأمون طرقه الروم فشعثوه، فأمر المأمون برمته وتحصينه، ثم قصده الروم أيام المعتصم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. فإنما سقت خبره هاهنا لأني لم أعلم تواريخ حوادثه.
وفيها اغزا الوليد أخاه الغمر بن يزيد، وأمر على يجوش البحر الأسود ابن بلال المحاذي وسيره إلى قبرس ليخبر أهلها بين المسير إلى الشام أو إلى الروم، فختارة طائفه جوار المسلمين، فسيرهم إلى الشام، واختار أخرون الروم، وسيرهم إليهم.
وفيها قدم سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم ولاهز بن قريظ وقحطبه بن شبيب مكه، فلقوا، في قول بعض أهل السير، محمد بن عبد الله ابن عباس فأخبروه بقصة أبي مسلم وما رأوه منه، فقال: أحر هو أم عبد؟ قالوا: أما عيسى فيزعم أنه عبد، وأما هو فيزعم أنه حر. قال: فشتروه واعتقوه وأعطوا محمد بن علي مائتي ألف درهم وكسوه ثلاثين ألف درهم. فقال لهم: ما أظنكم تلقوني بعد عامي هذا، فإن حدث بي حدث فصاحبكم ابني ابنراهيم فإني أثق به وأوصيكم به خيراً. فرجعوا من عنده.
وقال بعضهم: في هذه السنة توفي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في شهر ذي العقده وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وكان بين موته وموت أبيه سبع سنين.
وحج بالنالس هذه السنة يوسف بن محمد بن يوسف. وفيها غزا النعمان ابن يزيد بن عبد الملك الصائفه.
في هذه السنة مات أبو حازم الأعرج، وقيل سنة أربعين، وقيل سنة أربع وأربيعين ومائة. وفي أخر أيام هشام بن هشام بن عبد الملك توفي سماك بن حرب. وفي هذه السنة توفي القاسم بن أبي بزه، وأسم أبي بزه يسار، وهو من المشهورين بالقراءة. وأشعث بن أبي الشعثاء سليم بن أسو المحاربي. وسيد بن أبي أنيسه الجزري، مولى بن كلاب وقيل مولى يزيد بن الخطاب، وقيل مولى غني، وكان عمره ستاً وأربعين سنه، وكان فقيهاً عابداً، وكان له أخ أسمه يحيى، كان ضعيفاً بالحديث.
وفي أيام هشام مات العرجي الشاعر في حبس محمد بن هشام المخزومي، عامل هشام بن عبد الملك على المدينة ومكة، وكان سبب حبسه أنه هجاه فتتبعه حتى بلغه أنه أخذ مولى فضربه وقتله وأمر عبيدة أن يطأوا امرأة المولى المقتلول، فاخذه محمد فضربه فأقامه للناس فحبسه تسع سنين فمات في السجن العرجي بفتح العين المهملة، وسكون الراء، وأخره جيم وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم. ثم دخلت:

.سنة ست وعشرين ومائة:

.ذكر قتل خالد بن عبد الله القسري:

في هذه السنة قتل خالد بن عبد الله، وقد تقدم ذكر عزله عن العراق وخرسان، وكان عمله خمس عشرة سنة فيما قيل، ولما عزله هشام قدم عليه يوسف واسطاً فحبسه فيها، ثمسار يوسف إلى الحيرة وأخذ خالداً فحبسه بها تمام ثمانية عسر شهراً مع أخيه إسماعيل وابن يزيد بن خالجوابن أخيه المنذر بن إسد، اتستأ1ن يوسف هشاماً في تعذيبهفأذن له مر واحدة، وأقسم لئن هلك ليقتلنه،فعذبه يوسف ثم رده إلى حبسه. وقيل: بل عذبه عذاباً كثيراً،وكتب هشام إلى يوسف يأمره بأطلاقه في شوال سنة احد وعشرين،وخرج زيد فقتل، فكتب يوسف بن عمر: إن بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعاً فكانت عمة أحدهم قوت عياله، فلما ولي خالد الغراق أعطاهم الاموال، فتاقت أنفسهم للخلافة، وما خرج زيدإلا عن رأي خالد.
فقال هشام: كذب يوسف! وضرب رسوله وقال: لسنا نتهم خالداً في طاعة.
وسمع خالد فسار حتى نزل دمشق وسار إلى الصائفة. وكان على دمشق يومئذ كلثوم بن عياض القشيرى، وكان يبغض خالداً. فظهر في دور دمشقحريق كل ليلة يفعله رجل من أهل العراق القشيري، وكان يبغض خالداً، فظهر دور دمشق حريق كل ليلة بفعله رجل من أهل العراق يقال له ابن العمرس، فإذا وقع الحريق يسرقون، وكان أولاد خالد وإخوته بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام يخبره أم موالي خالد يريدون الوثوب على بيت المال وأنهم يحرقون البلد كل ليلة هذا الفعل.
فكتب إليه هشام يأمره أن يحبس آل خالد الصغير منهم والكبر ومواليهم، فأنفذ وأحضر أولاد خالد وإخوته من الساحل في الجوامع ومعهم مواليهم، وحبس بنات خالد والنساء والصبيان، ثم ظهر علي بن العمرس ومن كان معه، فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج إلى هشام يخبره بأخذ ابن العمرس وأصحابه بأسمائهم وقبائلهم، ولم يذكر فيهم أحداً من موالي خالد. فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويأمره باطلاق آل خالد، فأطلقهم فترك الموالي رجاء أن يشفع فيهم خالد إذ قدم من الصائفة.
ثم قدم خالد فنزل منزله في دمشق فأذن للناس، فقام بناته يحتجبن، فقال: لا تحتجبن فإن هشاماً كل يوم يسوقكن إلى الحبس، فدخل الناس، فقام أولاده يسترون النساء، فقال خالد: خرجت غازياً سامعاً مطيعاً فخلفت في عقبي وأخذ حرمي وأهل بيتي فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين، فما منع عصابة منكم أن تقولوا علام حبس حرم هذا السامع المطيع؟ أخفتم أن تقتلوا جميعاً؟ أخافكم الله ثم قال! ثم قال: مالي ولهشام؟ ليكفن عني أو أولا دعونى إلى عراقي الهوى، شامي الدار، حجاز الأصل، يعني محمد ابن علي بن عبد الله بن عباس، وقد أذنت لكم أن تبلغوا هشاماً، فلما بلغه قال: قد خرف أبوالهيثم.
وتتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام يطلب منه يزيد بن خالد بن عبد الله، فأرسل هشام إلى كلثوم يأمره بإنفاذ يزيد بن خالد بن عبد الله إلى يوسف ابن عمر، فطلبه، فهرب، فستدعى خالداً فحضر عنده، فحبسه، فسمع هشام فكتب إلى كلثوم يلومه ويأمره بتخليته، فأطلقه.
وكان هشام إذا أراد أمراً أمر الأبرش الكلبي فكتب به إلى خالد، فكتب إليه اللأبرش: إنه بلغ أمير المؤمنين أن رجلاً قال لك يا خالد إن لأحبك لعشر خصال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله رحيم وانت رحيم، حتى عدا عشراً، وأمير المؤمنين يقسم بالله لأن تحقق ذلك عنده ليقتلنك.
فكتب إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلاً من أن يجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرف ماكان فيه، وإنما قال لي: يا خالد إني لأحبك لعشر خصال: إن الله الكريم يحب كل كريم، والله يحبك فأنا أحبك، حتى عد عشر خصال، ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شقي الحميري إلى أمير المؤمنين وقوله: يا أمير المؤمنين خليفتك في أهلك أكرم عليك أم رسولك في حاجتك؟ فقال: بل خليفتي في أهلي. فقال: ابن شقي: فأنت خليفة الله وحمد رسوله، وضلال رجل من بجيلة، يعني نفسه، أهون على العامة من ضلاض أمير المؤمنينز فلما قرأ هشام كتابه قال: خرف أبو الهيثم! فأقام خلاد بدمشق حتى هلك هشاموقام الوليد، فكتب إليه الوليد: ما حال الخمسين ألف ألف التي علم؟ فاقدم على أمير المؤمنين، فقدم عليه، فأرسل إليه الوليد وهو واقف بباب الساردق فال: يقول أمير المؤمنين أين ابنك يزيد؟ فقال: كان هرب من هشام وكنا نر اه عند أمير المؤمنين حتى استخلفه الله، فملا لم نره ظنناه ببلاد قومه من السراة. ورجع الرسول وقال: لا ولكنك خلفته طالباً للفتنة. فقال: قد علم أمير المؤمنين أنا أهل بين طاعة. فجع الرسول فقال: يقول لك أمير المؤمنين لتأتين به أو لأرهقن نفسك. فرفع خالد صوته وقال: قل له: هذا أردت، والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فأمر الوليد بضربه، فضرب، فلم يتكلم، فحبسه حتى قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال فاشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف، فأرسل الوليد إلى خالد: إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه. فقال خالد: ما عهدت العرب تباع، والله لو سألتني أن أضمن عوداً ما ضمنته. فدفعه إلى يوسف، فنزع ثيابه وألبسه عباءة وحمله في محمل بغير وطاءٍ وعذبه عذاباً شديداً، وهو لا يكلمه كلمة، ثم حمله إلى الكوفة فعذبه ثم وضع المضرسة على صدره فقتله من الليل ودفنه من وقته بالحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين. وقيل: بل أمر يوسف فوضع على رجليه عود وقام عليه الرجال حتى تكسرت قدماه وما تكلم ولا عبس.
وكانت أنم خالد نصرانية رومية، ابتنى بها أبوه في بعض أعيادهم فأولدها خالداً وأسداً ولم تسلم، وبنى لها خالد بيعة، فذمه الناس والشعراء؛ فمن ذلك قول الفرزدق:
ألا قطع الرحمن ظهر مطيةٍ ** أتتنا تهادى من دمشقٍ بخالد

فكيف يؤم الناس من كانت امه ** تدين بأن الله ليس بواجد

بنى بيعةً فيها النصارى لأمه ** ويهدم من كفرٍ منار المساجد

وكان خالد قد أمر بهدم منار المسجد لأنه بلغه أن شارعاً قال:
ليتين في المؤذنين حياتي ** إنهم يبصرون من في السطوح

فيشيرون أو تشير إليهم ** بالهوى كل ذات دل مليح

فلما سمع هذا السعر أمر بهدمها، ولما بلغه أن الناس يذمونه لبنائه البيعة لأمه قام يعتذر إليهم فقال: لعن الله دينهم إن كان شراً من دينكم. وكان يقول: إن خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته، يعني أن الخليفة هشاماً من رسول الله، صلى اللهعليه وسلم، نبرأ إلى الله من هذه المقالة.

.ذكر قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك:

في هذه السنة قتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي يقال له الناقص، في جمادى الآخرة.
وكان سبب قتله ما تقدم ذكره من خلاعته ومجانته، فلما ولي الخلافة لم يزد من الذي كان فيه من اللهو واللذة والركوب للصيد وشرب النبيذ ومنادمة الفساق إلا تمادياً، فثقل ذلك على رعيته وجنده وكرهوا أمره، وكان أعظمه ما جنى على نفسه إفساده بني عميه هشام والوليد، فإنه أخذ سليمان بن هشام فضربه مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وغربه إلى عمان من أرض الشام فحبسه بها، فلم يزل محبوساً حتى قتل الوليد، فأخذ جاريةً كانت لآل الوليد، فكلمه عثمان بن الوليد في ردها، فقال: لا أردها. فقال: إذن تكثر الواهل حول عسكرك! وحبس الأفقم يزيد بن هشام وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته وحبس عدة من ولد الوليد، فرماه بنو هاشم وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه وقالوا: قد اتخذ مائة جامعة لبني أمية.
وكان أشدهم فيه يزيد بن الوليد، وكان الناس إلى قوله أميل لأنه كان يظهر النسك ويتواضع، وكان قد نهاه سعيد بن بيهس بن صهيب علن البيعة لابنيه الحكم وعثمان لصغرهما، فحبسه حتى مات في الحبس.
واراد خالد بن عبد الله القسري على البيعة لابنيه فأبى، فغضب عليه، فقيل له: تخالف أمير المؤمنين. فقال: كيف أبايع من لا أصلي خلفه ولا أقبل شهادته؟ قالوا: فنقبل شهادة الوليد مع فسقه! قال: أمير المؤمنين غائب عني وإنما هي أخبار الناس. ففسدت المانية عليه وفسدت عليه قضاعة، وهم واليمن أكثر جند أهل الشام، فاتى حريث وشبيب بن أبي مالك الغساني ومنصور بن جمهور الكلبي وابن عمه حبال بن عمرو ويعقوب بن عبد الرحمن وحميد بن منصور اللخمي والأصبغ بن ذؤالة والطفيل بن حارثة والسري بن زياد إلى خالد بن عبد الله القسري فدعوه إلى أمرهم، فلم يجبهم.
وأراد الوليد الحج فخاف خالد أن يقتلوه في الطريق فنهاه عن الحج، فقال: ولم؟ فأخبره فحبسه وأمر أن يطالب بأموال العراق، ثم استقدم يوسف ابن عمر من العراق وطلب منه أن يحضر معه الأموال، وأراد عزله وتولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف. فقدم يوسف بأموال لم يحمل من العراق مثلها، فلقيه حسان النبطي فأخبره أن الوليد يريد أن يولي عبد الملك بن محمد، وأشار عليه أن يحمل الرش إلى وزرائه، ففرق فيهم خمسمائة ألف، وقال له حسان: اكتب على لسان خليفتك بالعراق كتاباً: إني كتبت إليك ولا أملك إلا القصر، وادخل على الوليد والكتاب معك مختوم واشتر منه خالداً، ففعل؛ فأمره الوليد بالعود إلى العراق، واشترى منه خالداً القسري بخمسين ألف ألف فدفعه إليه، فأخذه معه في محمل بغر وطاء إلى العراق. فقال بعض أهل اليمن شعراً على لسان الوليد يحرض عليه، وقيل: إنها للوليد يوبخ اليمن على ترك نصر خالد:
ألم تهتج فتذكر الوصالا ** وحبلاً كان متصلاً عزالا

بلى فالدمع منك إلى انسجام ** كماء المزن ينسجل انسجالا

فدع عنك اذكارك آل سعدىٍ ** فنحن الأكثرون حصىً ومالا

ونحن المالكون الناس قسراً ** نسومهم المذلة والنكالا

وطئنا الأشعرين بعز قيسٍ ** فيا لك وطأةً لن تستقالا

وهذا خالد فينا أسير ** ألا منعوده إن كانوا رجالا

عظيمهم وسيدهم قديماً ** جعلنا المخزيات له ظلالا

فلو كانت قبائل ذات عز ** لما ذهبت صنائعه ضلالا

ولا تركوه مسلوباً أسيراً ** يعالج من سلاسلنا الثقالا

وكندة والسكون فما استقاموا ** ولا برحت خيولهم الرحالا

بها سمنا البرية كل خسفٍ ** وهدما السهولة والجبالا

ولكن الوقائع ضعضعتهم ** وجذتهم وردتهم شلالا

فما زالوا لنا بلداً عبيداً ** نسومهم المذلة والسفالا

فأصبحت الغداة علي تاج ** لملك الناس ما يبغي انتقالا

فعظم ذلك عليهم وسعوا في قتله وادادوا حنقاً؛ وقال حمزة بن بيض في الوليد:
وصلت سماء الضر بالضر بعدما ** زعمت سماء الضر سماء الضر عنا ستقلع

فليت هشاماً كان حياً يسومنا ** وكنا كما كنا نرجي ونطمع

وقال أيضاً:
يا وليد الخنا تركت الطريقا ** واضحاً وارتكبت فجاً عميقاً

وتماديت واعتديت وأسرف ** ت وأغريت وانبعثت فسوقا

أبداً هات ثم هات وهاتي ** ثم هاتي حتى تخر صعيفاً

أنت سكران ما تفيق فما تر ** تق فتقاً وقد فتقت فتوقا

فأتت اليمانية يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة، فشاور عمر بن يزيد الحكمي، فقال له: لا يبايعك الناس على هذا وشاور أخاك العباس فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك. وكان الشام وبياً، فخرجوا إلى البوادي، وكان العباس بالقسطل ويزيد بالبادية أيضاً بينهما أميال يسيرة، فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره، فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سراً وبث دعاته، فدعوا الناس، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزجره وقال: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقاً وأحملتك إلى أمير المؤمنين. فخرج من عنده. فقال العباس: إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان.
وبلغ الخبر مروان بن محمد بأرمينية، فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان يأمره أن ينهى الناس ويكفهم ويحذرهم الفتنة ويخوفهم خروج الأمر عنهم، فأعظم سعيد ذلك وبعث بالكتاب إلى العباس بن الوليد، فاستدعى العابس يزيد وتهدده، فكتمه يزيد أمره، فصدقه، وقال العباس لأخيه بشر بن الوليد: إني أظن أن الله قد أذن في هلاككم يا بني مروان؛ ثم تمثل:
إني أعيذكم بالله من فتنٍ ** مثل الجبال تسامى ثم تنفع

إن البرية قد ملت سياستكم ** فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا

لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم إن ** الذئاب إذا ما ألحمت رتعوا

لا تبقرن بأيديكم بطونكم ** فثم لا حسرة تغني ولا جزع

فلما اجتمع ليزيد أمره وهو متبد أقبل إلى دمشق، وبينه وبين دمشق أربع ليال، متنكراً في سبعة نفر على حمير، فنزلوا بجرود على مرحلة من دمشق، ثم سار فدخل دمشق وقد بايع له أكثر لأهلها سراً، وبايع أهل المزة، وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فخاف الوباء فخرج منها فنزل قطنا واستخلف ابنه على دمشق، وعلى شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي، فاجمع يزيد على الظهور، فقيل للعامل: إن يزيد خارج، فلم يصدق.
وراسل يزيد أصحابه بعد المغرب ليلة الجمعة، فكمنوا عند باب الفراديس حتى أذن العشاء فدخلوا فصلوا وللمسجد حرس قد وكلوا بإخراج الناس منه بالليل، فلما صلى الناس أخرجهم الحرس، وتباطأ أصحاب يزيد حتى لم يبق في المسجد غير الحرس وأصحاب يزيد، فأخذوا الحرس، ومضى يزيد ابن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأعلمه وأخذ بيده فقال: قم يا أمير المؤمنين وأبشر بنصر الله وعونه. فقالم وأقبل في اثني عشر رجلاً، فلما كان عند سوق الحمر لقوا أربعين رجلاً من أصحابهم ولقيهم زهاء مائتي رجل، فمضوا إلى المسجد فدخلوه وأخذوا باب المقصورة فضربوه فقالوا: رسل الوليد، ففتح لهم الباب خادم، فأخذوه ودخلوا أبا العاج وهو سكران، وأخذوا خزان بيت المال، وأرسل إلى كل من كان يحذره فأخذ، وقبض على محمد بن عبيدة، وهو على بعلبك، وأرسل بني عذرة إلى محمد بن عبد الملك بن محمد بن الحجاج فأخذوه.
وكان بالمسجد سلاح كثير فأخذوه، فلما أصبحوا جاء أهل المزة وتابع الناس وجاءت السكاسك وأقبل أهل داريا ويعقوب بن محمد بن هانئ العبسي وأقبل عيسى بن شيب التغلبي في أهل دومة وحرستا، وأقبل حميد ابن حبيب النخعي في أهل دير مروان والأرزة وسطرا، وأقبل أهل جرش وأهل الحديثة ودير زكا، وأقبل ربعي بن هاشم الحارثي في الجماعة من بني عذرة وسلامان، وأقبلت جهينة ومن والاهم. ثم وجه يزيد بن الوليد بن عبد الملك عبد الرحمن بن مصاد في مائتي فارس ليأخذوا عبد الملك ابن محمد بن الحجاج بن يوسف من قصره، فأخذوه بأمان، وأصاب عبد الرحمن خرجين في كل واحد منهما ثلاثون ألف دينار، فقيل له: خذ أحد هذين الخرجين. فقال: لا تتحدث العرب عني أني أول من خان في هذا الأمر.
ثم جهز يزيد جيشاً وسيرهم إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك وجعل عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك.
وكان يزيد لما ظهر بدمشق سار مولى للوليد إلى فأعلمه الخبر وهو بالأغدف من عمان، فضربه الوليد وحبسه وسير أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق، فسار بعض الطريق فأقام، فأرسل إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن ابن مساد، فسأله أبو محمد ثم بايع ليزيد بن الوليد.
ولما أتى الخبر إلى الوليد قال له يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية: سر حتى تنزل حمص فإنها حصينة، ووجه الخيول إلى يزيد فيقتل أو يؤسر. فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره ونساءه قبل أن يقاتل، والله يؤيد أمير المؤمنين وينصره. فقال يزيد بن خالد: وما نخلف على حرمه، وإنما أتاه عبد العزيز وهو ابن عمهن.
فأخذ بقول ابن عنسبة وسار حتى أتى البخراء قصر النعمان بن بشير، وسار معه من ولد الضحاك بن قيس أربعون رجلاً فقالوا له: ليس لنا سلاح، فلو أمرت لنا بسلاح. فما أعطاهم شيئاً. ونازله عبد العزيز، وكتب العابس بن الوليد بن عبد الملك إلى الوليد: إني آتيك. فقال الوليد: أخرجوا سريراً، فأخرجوه، فجلس عليه وانتظر العباس. فقاتلهم عبد العزيز ومعه منصور ابن جمهور، فبعث إليهم عبد العزيز زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فقتله أصحاب الوليد، واقتتلوا قتالاً شديداً، وكان الوليد قد أخرج لواء مروان بن الحكم الذي كان عقده بالحابية.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس إلى الوليد، فأرسل منصور بن جمهور إلى طريقه فأخذه قهراً وأتي به عبد العزيز فقال له: بايع لأخيك يزيد. فبايع ووقف، ونصبوا رايةً وقالوا: هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد. فقال العباس: غنا لله، خدعة من خدع الشيطان، وهلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد وأتوا العباس وعبد العزيز. وأرسل الوليد إلى عبد العزيز يبذل له خمسين ألف دينار وولاية حمص ما بقي ويؤمنه من كل حدث على أن ينصرف عن قتاله. فابى ولم يجبه. فظاهر الوليد بين درعين، وأتوه بفرسيه السندي والراية فقاتلهم قتالاً شديداً، فناداهم رجل: اقتلو عدو الله قتلة قوم لوط! ارجموه بالحجارة! فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب وقال:
دعوا لي سلمى والطلاء وقينيةً ** وكأساً ألاحسبي بذلك مالا

إذ ما صفا عيشي برملة عالجٍ ** وعانقت سلمى ما أريد بدالا

خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ** ثباتاً يساوي ما حييت عقالا

وخلوا عناني قبل عير وما جرى ** ولا تحسدوني أن أموت هزالا

فلما دخل القصر وأغلق الباب أحاط به عبد العزيز، فدنا الوليد من الباب وقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟ قال يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني. قال: يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع المؤن عنكم؟ ألم أعط فقراءكم؟ ألم أخدم زمنا لكم؟ فقال: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك واستخفافك بأمر الله! قال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله سعةً عما ذكرت. ورجع إلى الدار وجلس وأخذ مصحفاً فنشره يقرأ فيه وقال: يوم كيوم عثمان.
فصعدوا على الحائط، وكان أول من علاه يزيد بن عنبسة، فنزل إليه فأخذ بيده وهو يريد أن يحبسه ويؤامر فيه، فنزل من الحائط عشرة، منهم: منصور بن جمهور، وعبد السلام اللخمي، فضربه عبد السلام على رأسه، وضربه السندي بن زياد بن أبي كبشة في وجهه واحتزوا رأسه ويروه إلى يزيد.
فأتاه الرأس وهو يتغدى، فسجد، وحكى له يزيد بن عنبسة ما قاله للوليد، قال آخر كلامه: الله لا يرتق فتقكم ولا يلم شعثكم ولا تجمتع كلمتكم، فأمر يزيد بنصب رأسه. فقال له يزيد بن فروة مولى بني مرة: إنما تنصب رؤوس الخوارج وهذا ابن عمك وخلفة ولا آمن إن نصبته أن ترق له قلوب الناس ويغضب له أهل بيته. فلم يسمع منه ونصبه على رمح فطاف به بدمشق، ثم أمر به أن يدفع إلى أخيه سليمان بن يزيد، فلما نظر إليه سليمان قال: بعداً له! أشهد أنه كان شروباً للخمر ماجناً فاسقاً. ولقد أرادني في نفسي الفاسق. وكان سليمان ممن سعى في أمره.
وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح المغني وعمرو الوادي المغني أيضاص، فلما تفرق عن الوليد أصحابه وحصر قال مالك لعمرو: اذهب بنا. فقال عمرو: ليس هذا من الوفاء، نحن لا يعرض لنا لأنا لسنا ممن يقاتل. فقال مالك: والله لئن ظفروا بك وبي لا يقتل أحد قبلي وقبلك فيوضع رأسه بين رأسينا وقال للناس: انظروا من كان معه في هذه الحال، فلا يعيبونه بشيء أشد من هذا. فهربا.
وكان قتله لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين، وكانت مدة خلافته سنة وثلاثة أشهر، وقيل سنة وشهرين واثنين وعشرين يوماً، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وقيل: قتل وهو ابن ثمان وثلاثين سنة، وقيل إحدى وأربعين ينة، وقيل ست وأربعين سنة.